الطفل " عبدالله" ارتقى الى الرفيق الاعلى بعد ان انهى صلاة التراويح
الطفل عبدالله مات ولن نراه
*جعفر المقدادي ( ابو بشار)
الرجال مواقف والشدائد وحدها من تُظهر معدنهم وتُبرز قيمتهم الحقيقية ، وتكشف الثوب الذي يليق بأجسادهم ، وهذا ما ظهر عليه والد الطفل (عبدالله) ابن العم الشهم محمد عبدالرحمن إبراهيم مقدادي (أبو تامر) ، هذا الرجل بسيط الطبع طيب النفس سمح التعامل في نظر العموم ، وبكل عفوية خط بماء الذهب على لوحة المجد ، موقفاً سيشهده التاريخ وتذكره الاجيال بعد أن كظم غيظه وعفا عمن تسبب بموت ولده ، عندما احتسب ما اصابه عند الله وجعله بيد الله والأمر كله لله ، بيقين أن فلذة كبده حفيد المرحوم الحاج عبدالرحمن بعناية الرحمن وبكفالة سيدنا إبراهيم ليوم الدين
الطفل (عبدالله) ابن الثانية عشرة ربيعاً استهم بكل حماس كشعلة النشاط التي تُدحرجها الرياح لتزيد سرعتها ، قاصداً بكل طمأنينة بيتاً من بيوت الله ولعل مسجد الحيدر في حي (أم خنيفس) ، هو الاقرب لمنزل والده الكائن في بلدة بيت إيدس (حي الجارودة) ، فسارت خطواته الهادئة صوبه لأداء فرض العشاء وقيام الليل (التراويح) رفقة شقيقه الذي يكبره سناً فغازلت خطواتهما غُبار الثرى ذهاباً بكل تواضع ولطف .
وفي العودة كان على بُعد خطوات معدودة من الوصول إلى البيت بسلام ، ليُكمل مع احبته ما تبقى من الليل ، قبل أن يرقد نحو فراشه لينام ، وهو لا يعلم أن اجله قد انتهى ، هنا وأن العودة لمنزل والده سيراً على الاقدام باتت في حكم المستحيل وفراشه هذه الليلة ثلاجة الموتى .
قُضي الأمر في المكان والزمان المعلومين ووقع القدر المكتوب ، وخطف الاجل المحبوب من بين كل القلوب بسبب سرعة الاطارات ، التي كانت اقوى بكثير من عزيمة الفقيد بالنجاة ، فكتمت أنفاسه العفيفة بعد أن جعلته يُحلّق في الهواء كبطل القفز بالزانة ، قبل أن تُرديه قتيلاً ، فرمته لأمتار معدودة ، وجعلته يلتحق بركب ضحايا الطرقات ويدخل في سجل القتلى لحوادث السير ويحمل الرقم (ستة عشر) من اموات بلدتنا لهذا العام .
وتخسر عائلته فرداً من أفرادها كان لوجوده نكهة يصعب على غيره تعويض مذاقها ، وينقص في الوقت نفسه صفه الدراسي (السادس الاساسي) في مدرسة البلدة طالباً ، ليبقى المقعد الذي كان يجلس عليه فارغاً ينظر إليه زملاؤه والحسرة مكتومة في وجدانهم المكبوت ، يُخال لهم أن زميلهم العزيز قد يعود ولو وهماً لأنفسهم رغم رسم شفاههم على جبينه قبلات الوداع الآخير ، واعينهم تكتوي بحرارة الدمع المغلي لكنهم يتساءلون في كل حصة دراسية أين (عبدالله) ؟ الذي لم نعد نراه .
أما قلب أمه فكان يذوب بشكل تدريجي بعد أن لسعته الحسرة ، وتغلغلت به الحرقة وتفشى به اليأس وعمته الندامة ككرة الثلج ، التي تتدحرج تحت اشعة الشمس الحارقة ، وهي تنظر بعين الدفء لفلذة كبدها وآخر عنقودها وفتاها المدلل ، وقد خطفه الموت من بين ذراعيها مُدركة بكل يقين أن شهادة ميلاده دُفنت لحظة صدور شهادة وفاته ، فالآن لم يعد يُحرك ساكناً لأنه بعيداً عن الحول والقوة مُنبطحاً أمام باقي اخوانه الذين يصطدمون ببشاعة الموقف وشراهة الحال ولا يملكون لأخيهم إلا الرحمة والدعاء وتفريغ شحناتهم بالتأويل والحيرة والاجهاش بالبكاء بكل حسرة وندامة ، فشقيقهم المحبوب جنازة تُحمل على اكتافهم واكتاف المصلين لتوارى الثرى وبعدها سيكون مجرد ضريح يُزار لقراءة الفاتحة ، وبعد عام هو ذكرى للوفاة فلن يعد لأحد أن يراه .
بينما الأب ينتفض بدنه من غير وعي وتضطرب احواله لأنه ما زال في عمله ، ولا يشهد للحدث شيئاً بل يعيش لحظات التخيّل ، ويفسر الواقع كما يحلو له وحسب ما يستمد من خياله المخلوط بالحزن والحرقة من اهواء ، ولعل بصيصاً من الأمل ولو بالكذب على نفسه بأن ولده ما زال ذو قلب نابض ولسان ناطق غير شاعر بالثقب الذي نخر كبده لحظة كتم انفاس حبيب قلبه ، وعيناه تفيضان بالدمع من لحظة سماعه هذا الخبر المُفجع ، وكأن البلدة برمتها يتسرب لها الخبر المسموم كغاز الخردل ليقتل فرحتها ويبيد طموحاتها بتكذيب الخبر ، الذي بحكم الواقع صحيحاً دون أية شكوك أو ظنون
شكراً (أبا تامر) وجعل العلي القدير سبحانه ابنك (عبدالله) فرطاً لك ولوالدته وستراً لكما من النار وآجركما في مصيبتكما وعوضكما خيراً منها
أما نحن فعلينا أن نأخذ حذرنا أكثر أثناء القيادة ونلتزم بقواعد المرور وتعليمات السير على الطرقات وضبط السرعات فالارواح تُزهق أمامنا والاخطاء تتراكم كل يوم ونحن في غفلة من الامر
وخيراً فعلت (أبا تامر) فالعفو عند المقدرة من شيم الرجال وأهل الصلاح وبارك الله فيك وجعل ذلك في ميزان حسناتك
* الكاتب مسؤول صفحة بيت ايدس - نبض البلد
تعليقات
إرسال تعليق