الشيخ كليب الشريدة .. رمز أردنيٌ .. أبيٌّ
الشيخ كليب الشريدة .. رمز أردنيٌ .. أبيٌّ
بقلم : عوض ضيف الله الملاحمه
يُحزنني تغييب شخصيات وطنية أردنية . وهذا يدفعني للتذكير بها ، وإحياء تاريخها المجيد ولو بمقال متواضع ، محدود المساحة ، يُدخلني بارتباك بين اندفاعي وحماسي لأكتب عنهم كل ما تطاله يداي ، وتقع عليه عيناي ، وبين محددات المقال الفنية مساحةً ، وإختصاراً ، مراعاة لوقت القراء الكرام ، الذين ينفرون من المقال اذا طال .
من الشخصيات التي لفتت انتباهي ، وتباهيت بها البطل الشيخ / كليب بن يوسف بن شريدة بن رباع ، الذي ولد عام ١٨٦٥ ، وفي رواية أخرى عام ١٨٧٢ ، وتوفي عام ١٩٤١ . ينحدر نسبه من عشيرة حماد ، التي كانت تسكن في وادي بن حماد في الكرك ، وانتقلت شمالاً ، شأنها شأن العديد من العشائر الأردنية ، التي انتقلت بحثاً عن الأمن ، وهرباً من البطش والظلم إبان الاحتلال العثماني البغيض . واستقرت بهم الامور في قرية ( تِبنه ) ضمن لواء الكورة ، في محافظة إربد . ورث الزعامة عن والده الشيخ يوسف ، وجده الشيخ شريدة ، حيث منحَتهم زمام قيادة المنطقة ، وهم يرقبون بفرح تراخي قوى الدولة العثمانية ، التي حكمتهم بالحديد والنار .
كان الشيخ كليب الشريدة بطلاً وطنياً حُراً ، مدافعاً عن بلاد الشام ، وقضايا وطنه ، وحريصاً على مصالح ابناء شعبه ، رافضاً ، ومقاوماً لكل انواع الاحتلال عثمانياً كان ، او فرنسياً ، او بريطانياً ، او صهيونياً . وقد اغتنم الفرصة ، فأسس لنوع مختلف من الزعامة والحكم ، حيث اولى عنايته للمضافة وسماها (( العلالي )) — التي قصفها الطيران البريطاني بموافقة الحكومة المركزية ، مع كل الأسف — حيث عمِل على تقوية نفوذها لملء الفراغ الذي خلّفه غياب الحُكم المركزي . اعتمد هذا الفتى على نفسه وهو يضع اولى خطواته على درب ( الشيخة ) والزعامة ، التي ستقوده ليكون حاكماً محلياً صاحب حكمة وبصيرة نافذة . كان طيب النفس ، حَسنُ الخُلق ، تمتع بحب الناس ، وكان تقياً ورعاً . كان يفكر بالاسم الذي منحته له والدته علّه يجنبها موت ابنائها ، فجعلت من الاسم المستعار من الحيوانات تعويذة لعله يوقف موت ابنائها وهم صِغار . وفي رواية اخرى يقال ان سبب تسميته بكليب ، كان تيمناً بشخصية أردنية تاريخية هو الفارس البطل / كليب بن سلامه بن رشيد الفواز ، الذي انتصر على الوالي العثماني في معركة ( الجابية ) عام ١٧٠٥. فكّر الشيخ كليب بتحويل المضافة الى مؤسسة حُكم ذات هيبة ، جعل لها خدماً ، وحراساً ، وعمالاً يقومون على خدمة الضيوف ، والمحتاجين . وكان ذلك شكلاً من الحكم الذاتي الحقيقي ، نشأ في غياب سُلطة السلطة العثمانية .
ولأن الشيخ كليب الشريدة ، من أقوى المدافعين عن وحدة بلاد الشام ، شارك في حفل تتويج الملك فيصل على سوريا ، وللتعبير عن دعمه قام بتجهيز قوة من ( ٢٠٠ ) جندي بقيادة ابنه عبدالله للمشاركة في محاربة الفرنسيين ، لكن الاستعمار الفرنسي وأد حلم وحدة بلاد الشام . شهدت المنطقة فراغاً ، فتشكلت حكومات محلية ، فأنشأ الشريدة حكومة ( دير يوسف ) ، في موازاة حكومة ( إربد ) التي ترأسها / خلقي الشرايري . حيث رفض الشريدة الإنضمام اليها ، واعلن الولاء للأمير / عبدالله بن الحسين ، وطلب من الأمير ان تكون ناحية الكورة مرتبطة بالحكومة المركزية في عمان . وعندما لم يُستجب لطلبه ، توترت العلاقة بينه وبين حكومة الإمارة ، لدرجة وقوع صدامات مسلحة . وتطور الوضع الى ما سُمي بالثورة ، هدأت الأمور عندما زار الامير عبدالله قرية ( سوف ) . لكن عاد التوتر ثانية ، وانتهى الى مصادمات عسكرية ، حيث ادت المفاوضات الى لجوئه الى مضارب الشيخ / حديثة الخريشة في الموقر . وبعد مفاوضات ووساطات سلّم الشريدة نفسه ، بعد ان أخذ الشيخ حديثه وعداً من الامير عبدالله ، بان لا يتم إعدامه هو ورجالاته . وحُكم عليهم بالاعدام ، لكن تم الافراج عنهم عام ١٩٢٣ . وقد اودع سجن السلط ، فتحول السجن الى مضافة ، بسبب علاقته مع الشيخ / محمد حسين العوامله ، حيث أشاد بحُسن تعامل وكرم أهل السلط . أتقصد ذكر هذا لاعطاء دليل أكيد على تكاتف الاردنيين ، وتضامنهم ، وكرمهم ، ونخوتهم .
قاوم الشيخ / الشريدة الاستعمار العثماني ، والاستعمار الفرنسي ، والهجرة اليهودية الى فلسطين ، وناضل ضد تهويدها ، وشاركت قوات العشائر بقيادة ابنه عبدالله في معركة تل الثعالب ، التي استشهد فيها اول شهيد اردني على ثرى فلسطين ، وهو الشهيد / كايد مفلح عبيدات ، عام ١٩٢١. كما دافع عن وطنه الاردن بكل صلابة وشجاعة ، ولم يُحابي او يُجامل أحداً على مصلحة الوطن . كان معارضاً صلباً ، وصلفاً ، ورث القوة والشجاعة والميل للحزم والحسم ، ورفْض الظلم ، ومحاربته ، عن جده شريده بن رباع . حيث قام جده ، برفض دفع الضرائب ، ورد على رفع الضرائب بالدخول برفقة من فرسان لواء الكورة لدار السرايا في اربد والقضاء على الوالي العثماني بداخلها . كما انتصر وقواته على القوات العثمانية ودحرها في عدة مواقع .
تربى الشيخ / كليب على الخصال الاردنية الأصيلة كالشهامة ، والفروسية ، والكرم ، ورفض الظلم ، وحماية الجار ، والدخيل . كان لا يقبل الذل ، ولا الخضوع ، ولا الخنوع . كان فارساً ماهراً ، قوي البُنية . كان يتّبع نهج الشورى ، والحِوار ، ولم يكن متسلطاً ، وكان يهتم بالتعليم ، حيث بنى مسجداً ملحقاً بالمضافة ، وجعله منارة للعلم والمعرفة ، وليقوم بدور الكتاتيب . كما كان قاضياً عشائرياً ، ومُصلِحاً لذات البين .
هؤلاء هم مِلحُ الأرض ، وجينات الشجاعة والإقدام والرجولة الحقه ، رموز الاردن الأبديين السرمديين ، الذين دافعوا ، وناضلوا ، وطنياً ، وعروبياً ، ببسالة وشجاعة عزّ نظيرها . وما يؤلمني جداً التهميش المتعمد لهؤلاء الابطال الذين لم يبخلوا على وطنهم حتى بتقديم الروح رخيصة فداءً للوطن واهله وترابه . أليس من الواجب الوطني ان يتم تدريس سِير حياتهم في المدارس !؟
أرجو المعذرة ، لان مقالاً لا يمكن ان يفي بطلاً حقه ، وهو ليس ببطل فحسب بل ثائراً صلباً ، صعب المراس ، مُهاب الجانب ، لا يهادن ، ولا يتهاون ، لجرأته ، وشجاعته ، وبسالته ، وعروبته ، ووطنيته . وفي الختام أحث القراء الكرام على تعريف ابنائهم برجالات الاردن الأوائل ، فرداً ، فرداً وهم كُثر ، لان الجهات الرسمية الاردنية تعمل جاهدة على طمس هذا التاريخ . كما ان الواجب يفرض على الأهل تعريف ابنائهم بتكاتف الاردنيين الأوائل من الرمثا الى العقبة ، حتى تفوتوا الفرصة على كل الجهات التي تنوي دسّ الضغائن بيننا . وسيرة هذا الرجل تثبت صحة ذلك : فجذوره من الكرك ، وعاش في الشمال والتجأ الى الموقر ، وحظي باحترام وتكريم في السلط .
تعليقات
إرسال تعليق